النفط سلعة استراتيجية أم مالية؟

تتذبذب أسعار النفط، من دون أي توجهات واضحة في الأجل القريب. وارتفعت قبل ثلاثة أسابيع تقريباً إلى نحو 87 دولاراً ثم انخفضت إلى نحو 69 دولاراً في الأسبوعين الأخيرين، وارتفعت الآن مرة أخرى إلى نحو 75 دولاراً. تختلف الأسباب وراء مسيرة الأسعار ما بين تغيرات قريبة الأجل وأخرى متوسطة الأجل. والسؤال الأساس هو: هل النفط مجرد سلعة مالية، حالها حال بقية السلع من هذا النوع إذ تتغير أسعاره بين يوم وآخر من دون أسباب واضحة، أم أنه سلعة استراتيجية له أسعاره في حدود دنيا وقصوى لا يتم عبورها أو تخطيها فترات طويلة؟

تركز وسائل الإعلام على المتغيرات القريبة الأجل في تفسير أسباب ارتفاع الأسعار أو انخفاضها. فمثلاً، يكون السبب في التغيير تصريحاً لمسؤول نفطي حول توقعاته لتطورات الأسواق، أو تغيراً مناخياً مهماً في منطقة ذات استهلاك عال، مثل الولايات الشمالية الشرقية للولايات المتحدة، أو قرارات اقتصادية وبترولية صينية، أو ارتفاع المخزون التجاري للنفط في الولايات المتحدة. وهناك أسباب جيوسياسية يمكن أن تؤثر في أمن الإمدادات، خصوصاً في منطقة الخليج. وهنا تتأثر الأسعار في بعض الأحيان بمجرد تصريح، أي حتى قبل أن تشتد الأزمات. وهناك الانعكاسات الاقتصادية الدولية على الطلب، كما حدث أثناء أزمة القروض العقارية في الولايات المتحدة، أو ما يحدث حالياً مع أزمة اليورو. وأخيراً، هناك سياسات بعض الدول الكبرى، المستهلكة أو المنتجة، التي تقرر لأسباب خاصة بها، زيادة الأسعار أو خفضها.

يزيد هذه التكهنات عدم وجود مرصد رسمي لأسعار النفط. فالعقود والاتفاقات ما بين الدول المصدرة وشركات النفط غير علنية، وإن أُعلِنت، تكون عادة في صيغة معادلة تقارن الأسعار بالنفوط القياسية، مثل نفط «برنت» لبحر الشمال. كذلك تُعلَن الأسعار من خلال معلومات يحصل عليها الصحافيون من تجار النفط، وهنا أيضاً، لا مرصد رسمياً يعلن الأسعار. بمعنى آخر، تلعب وسائل الإعلام الدور الأساس في استكشاف القيم السعرية والإعلان عنها. وما تنشره وكالات الأنباء أو النشرات المتخصصة تنقله وسائل الإعلام. ويزيد الطين بلة قرار منظمة «أوبك» الاعتماد على مصادر خارجية، منها وسائل الإعلام، في تبيان معدل إنتاج الدول الأعضاء، أي أن المنظمة لا تعتمد على المعلومات الرسمية التي تستلمها من الدول الأعضاء.

مهما تكن أسباب التغيرات في الأسعار، يصعب تحديد العوامل الرئيسة وراء التذبذبات اليومية لها. وقد تكون الأسباب متعددة في الوقت ذاته، بعضها لا يُشار إليه في وسائل الإعلام، لعدم معرفة الصحافيين ببعض خبايا الأمور، ويُحتمَل كثيراً أن يكون السبب إشاعة بثها أحدهم في الأسواق من أجل مصلحة خاصة.

وتدفع التقلبات اليومية للأسعار بالنفط في اتجاه تحوله سلعة مالية يستعملها المضاربون، بدلاً من كونه سلعة استراتيجية تؤثر في صناعات عالمية متعددة. فللوقود دور في وسائل النقل، وللمشتقات دور في صناعة البتروكيماويات وفي توليد الكهرباء.

لكن على رغم طغيان الأخبار اليومية على أسعار النفط، كتكرار مقولة هذه الأيام مفادها بأن ارتفاع قيمة الدولار تؤدي إلى انخفاض سعر النفط، يبقى النفط سلعة استراتيجية تفرض نفسها على أساسيات صناعة الطاقة العالمية. فنجد، مثلاً، أن المنافسة القوية لبدائل الطاقة (نووية أو شمسية أو غازية) تدعو إلى حد أدنى لسعر النفط لا يمكن تجاوزه فترة طويلة، لأن الدول المستهلكة تعمل حالياً على تطوير بدائل للطاقة، في محاولة لتحسين اقتصاداتها كي تستطيع أن تتنافس مع النفط، وهذا يتطلب سعراً عالياً نسبياً للنفط لتشجيع تطوير المصادر الجديدة. في الوقت ذاته، ثمة من يستصعب زيادة الأسعار فوق معدل معين، لأنها تشكّل عبئاً على المواطنين، وتثير تذمرهم في هذا البلد أو ذاك، أو تلحق أضراراً بالاقتصاد العالمي. وتعني هذه الحدود لأسعار النفط وتذبذبه في نطاقها أن النفط يبقى سلعة استراتيجية تتراوح أسعارها في حدود معينة، على رغم التقلبات اليومية في أسعاره.

واضح أن النفط سيبقى يلعب دوراً مزدوجاً. فهو سلعة مالية من جهة لضخامة حجمه في التجارة الدولية ولتوافر الأسواق المفتوحة في نظام العولمة التي تتعامل به وتضارب عليه. في الوقت ذاته، سيبقى النفط، حتى إشعار آخر، سلعة استراتيجية دولية تلعب دوراً مهماً في الصناعة العالمية، نظراً إلى مؤثراته في القطاع الصناعي، وإلى المحاولات الدؤوبة هذه الأيام لتطوير طاقات بديلة عنه، ما يبرز أهمية تسعيره ضمن حدود معينة تساعد في تطوير هذه البدائل.

* كاتب متخصص في شؤون الطاقة

شكرا لك على الموضوع