ان طال الزمان او قصر.... الموت كاس لا بد ان تشربه... والقبر باب لابد ان تفتحه...
لكن مقابر الاردن ضاقت بساكنيها الابديين, وأصبح للموت فيه مهن وخدمات ترتبط به..وترك قاطنوها يحلمون بكرامة لربما عجزوا عن تحقيقها في حياتهم.
فما تكشف عند زيارة عدد من المقابر في محافظة العاصمة و محافظة اربد, ما هو الا نقطة من فيض انتهاك صارخ يكشف عن وضعية كارثية يندى لها الجبين, في اماكن يفترض بها ان تكون عنوانا للاستقرار الأبدي للموتى...
فعلى ما يبدو ان زيارة المقابر لم تعد لغرض قراءة الفاتحة, وتحقيق السكينة للحي و الميت على حد سواء. كيف لا والمقابر هناك موحشة، موحلة، يختلط عـاليها بسافلها.....
فاضحت المقابر مكانا للتخلص من كل أنواع النفايات والفضلات, من بقايا السجائر وفضلات الطعام وقارورات الخمر التي ترمى بجانب القبور، من غير استحياء ولا احترام لحرمتها... كما الاشجار الشوكية التي نمت بصورة عشوائية مشوهة المقابر باكملها, خاصة مع وجود الاكياس البلاستيكية التي يفوق عددها الموتى المدفونين.
وفي مشاهد اخرى تنخز الانسانية -ان وجدت-, تجد بعض المواطنين يقضون حوائجهم و يتبولون داخلها ,كانها حمامات عامة بالمجان..
أمر يثير العجب أمام صمت المسؤولين.... فبعد ان كانت ظاهرة التعدي على حرمة الأموات في المقابر لا يسمع بها من قبل، بل إن الكثير من أبناء هذه الأمة كان يعدها كبيرة من الكبائر...اصبحت ترى ان هناك متسعا لإيواء السكارى ومتعاطي المخدرات والمتسولين ، الى المشاجرات التي تحصل كثيرا بينهم، وما يتخللها من تعالي الأصوات بالكلام الفاحش والبذيء داخل حرم المقبرة. كل هذا من الأفعال المخلة بالحياء تكون على مسامع الأموات....
أما فئة اخرى, ففضلت أن تمارس طقوس السحر والشعوذة، وتدنس كل عزيز وتتحدى أي رقيب بممارسة عجب العجاب، ألا وهو نبش القبور ووضع أمور السحر والشعوذة في التربة المقدسة لقبور الموتى.
فالقبور الان مركز من بين مراكز عمل المشعوذات للبحث عن الكنوز,و لفك الربط عن المربوطين من الأزواج ولتزويج العوانس،والانتقام من الحماة او الكنة, فتربة وماء القبر من أحسن وصفات التي تستعملها المشعوذات...
عند بحثنا في يوميات رواد المقابر, قصدنا احداها يوم الجمعة صباحا. عند دخولنا ظننا أننا في سوق, لولا مراقد الأموات التي أكدت لنا شيئا آخر، شاهدنا "ام أشرف", عجوز في 65 من عمرها, تجلس إلى جانب قبر وعند سؤالها اجابت بانها جاءت لتحل رباط السحر الذي تعاني منه ابنتها واستعملت قارورة ماء وسقت بها قبر الميت الذي كانت تجلس بالقرب منه.
كل هذه الانتهاكات....لا تخفي ورائها الا ما هو اقبح من سلسلة منغصات اخرى تصيب من فقد عزيزا رغم هول الفاجعة وجلالة الخطب، فيجد المواطن نفسه امام ضرورة توفير مبلغ من المال لتأمين تكاليف الموت بطريقة محترمة، بعد أن أصبحت تكاليفه توازي أو تتجاوز تكاليف بعض أسباب الحياة ذاتها.
فاضحى مشروع استثماريا من نوع جديد، استطاع العاملون في قطاع الموت اكتشافه مؤخراً، بما أنَّ كل شيء تحوَّل ليصبح قابلاً للاستثمار.. حتى الموت!!
فالمواطن الاردني عرضةً للإبتزاز والسمسرة, في تأمين تكلفة القبر و سيارة الجنازة والقرَّاء ناهيك عن أجرة خيمة التعزية والكراسي ، والطعام .
نعم، أصبح الموت همّاً يثقل كاهل كلِّ مَن اقترب بخطواته من الضفة الأخرى.. معاناة لا يشعر بها فقط مَن أسلم روحه إلى باريها، بل أهله وأقاربه ممن لا ينقصهم أكثر مما ابتلاهم الله به.
و سيبقى ملف المقابر وكرا للفساد...ودليلا دامغا على انعدام الانسانية الى ان ينطق امواتنا مطالبين باحترامهم ....