تحميل كتاب الديمقراطية .. ولعبة الكلاب البوليسية ، عادل حمودة
تحميل كتاب الديمقراطية .. ولعبة الكلاب البوليسية ، عادل حمودة
تحميل كتاب الديمقراطية .. ولعبة الكلاب البوليسية ، عادل حمودة
الديمقراطية .. ولعبة الكلاب البوليسية
عادل حمودة
إنقلابات .. مؤتمرات .. حكايات .. خرافات .. صراعات .. شخصيات .. وشخصيات شرسة وناعمة لعبت أدواراً في أجهزة مخابرات ..
إنها كلمات تفتح ملفات ..
والملفات تلخصها مقالات وكتابات ..
والمقالات والكتابات للكاتب الصحفي ..
عادل حمودة
وهذه المقالة من الكتاب
الديمقراطية ولعبة الكلاب البوليسية
بقلم : عادل حمودة
في هذه اللحظة كان لابد أن تستدعي ذاكرتي البعيدة قصيدة بابلو نيرودا الشهيرة التي يهاجم فيها الانقلابات العسكرية ويصفها بأنها إقامة قلقة بين شفاه الغول.. ووضع رقاب شعب بأكمله تحت سيف مسلول.. ولا أحد يقول.. لا أحد يعرف اسم القاتل.. واسم المقتول..
في هذه اللحظة كان لابد أن تستدعي ذاكرتي القريبة ما قاله الروائي الكولومبي الحائز علي جائزة نوبل جارسيا ماركيز في روايته خريف البطريرك عن حكم الجنرالات الصارم المؤلم الذي لا نجم فيه يسطع.. ولا أرض تحبل.. ولا شعوب تتعلم أو تتأمل أو تتذكر.. انها فقط تتناسل في الغرف المغلقة.. وتعيش في توابيت من رخام.. وتلعق حذاء أي نظام.. وتنتقل من فصيلة الانسان الي فصيلة النعام..
في هذه اللحظة كان لابد أن تستدعي ذاكرتي المباشرة ما جاء في تقرير المعهد الاستراتيجي في لندن منذ10 سنوات عن نهاية أسلوب الانقلابات العسكرية كوسيلة من وسائل تغيير السلطة في الدول الفقيرة غير الديمقراطية.. واعتبارها وسيلة قديمة.. دخلت متحف التاريخ.. مثلها مثل الديناصورات المنقرضة.في هذه اللحظة ـ التي راحت ذاكرتي تقلب كل ما فيها علي هذا النحو ـ كنت أتابع بذهول واضح ومفاجأة كاملة الانقلاب العسكري الذي وقع مؤخرا في باكستان وقام به الجنرال برفيز مشرف ليطيح بالحكم المدني الذي كان يمثله رئيس الحكومة نواز شريف.. وشعرت أن الديناصورات خرجت من متحف التاريخ السياسي ودبت فيها الحياة وراحت من جديد تعيد الزمن للوراء.. وكأن كل الخبرات الديمقراطية التي كافحت الشعوب الفقيرة في الجنوب من أجلها ضاعت هباء.. ان ما جمعته نملة الديمقراطية في عقود طويلة أخذه خف جمل العسكرية في دقيقة واحدة.
***
لقد عادت الصورة القديمة للانقلاب لتفرض نفسها من جديد بعد أن كانت قد اختفت وتوارت.. صورة الشوارع الخالية من البشر.. تسيطر عليها الدبابات والمدرعات ونقاط التفتيش والمراقبة الصارمة.. صورة رئيس الانقلاب بملابسه الصفراء ونياشينه التي تغطي صدره وهو يلقي بالبيان رقم واحد عبر الأثير وشبكات التليفزيون.. مبشرا بسقوط قوي الشر.. وصعود قوي الخير.. ومهددا بسحق وسحل كل من لا يعججبه بيانه.. صورة الشرطة العسكرية التي تلغي القانون وتفرض الأحكام العرفية وتلقي القبض علي المشتبه فيهم سياسيا وتفتح المعتقلات والسجون وتحشر فيها كل من تتصور أنه خطر عليها.. صورة بشر يسيطر عليهم اليأس والاحباط والشعور بأنه قد كتب عليهم الحكم العسكري مهما اختلفت أشكاله وألوانه وكأنه قضاء وقدر لا مفر منهما.ولابد أن يلعب قادة الانقلاب علي مشاعر الناس ومعاناتهم.. كما وجدنا في كل الانقلابات.. وكما وجدنا في الانقلاب الأخير في باكستان.. فهم يتحدثون عن مواجهة الفساد.. وضرب اللصوص الذين يمصون دم الفقراء ويثرون علي حسابهم.. ويبشرون بعودة القروض المنهوبة من مدخرات البنوك.. وهي تقدر في حالة باكستان بنحو120 مليار دولار.. أعطيت بلا ضمانات لعشرين عائلة فقط.. تسيطر علي66% من الصناعة و79% من أعمال التأمين و80% من الأعمال المصرفية.. بينما أكثر من75% من السكان يعملون في قطاع الزراعة الذي يعاني من متاعب لا نهاية لها أدت الي أن غالبية السكان تعيش تحت خط الفقر.
لابد أن العسكريين سيبررون نزولهم الشارع وسيطرتهم علي البرلمان وتعطيل الحياة المدنية بما يتصور أنه سيغري الناس بتأييدهم.. ولكن.. الخبرات القديمة في الانقلابات العسكرية تؤكد أن غياب الحياة المدنية وتعطيل الديمقراطية لا يأتي بالخبز ولا بالشفافية.. بل يأتي بمزيد من الفقر والقهر.***
باسم الاسلام والعدالة الاجتماعية سيطر الجنرالات والمشايخ علي السودان.. ولكن.. لا العدالة الاجتماعية تحققت.. ولا التوترات السياسية هدأت.. بل علي العكس.. وجد الناس أنفسهم في حرب أهلية طائفية.. ووجدوا أنفسهم في مجاعات يصعب مواجهتها.. بل أكثر من ذلك عادت السودان لنظام الرق والعبودية.. وراحت النخاسة تفرض نفسها علي هذا المجتمع العريق.. وبدأت الأمم المتحدة والولايات المتحدة تهددان بالتدخل في السودان حماية لحقوق الانسان من البيع والشراء.
وتحت شعاري الإحياء الاسلامي وضرب الفساد بيد من حديد قام الجنرال محمد ضياء الحق بانقلابه علي رئيس الوزراء الباكستاني ذو الفقار علي بوتو في يوليو1977.. وكان بوتو قد تسلم السلطة من العسكريين في عام1971 بعد أن فاز حزبه.. حزب الشعب في الانتخابات التي أجراها يحيي خان.. لكن الاصلاحات التي قام بها بوتو في مجالات الحياة المختلفة وأخذت طابعا يتسم بالراديكالية أو الاشتراكية لم تعجب الولايات المتحدة ولا الأحزاب السياسية التي تتاجر بالدين.. ومن ثم كان لابد من التخلص منه.. واعادة العسكريين للسلطة من جديد.
لقد حظر ضياء الحق النشاط السياسي.. وطويت الانتخابات الموعودة في غياهب النسيان.. وفرض الجيش علي السلطة.. وفت المعارضة.. ولكن.. دون أن يهتز الفساد.. أو يفقد شبرا واحدا من الأرض التي يسيطر عليها.. بل ان مساحة نفوذه قد تضاعفت.. وكانت جملت الثروات الحرام التي تكونت في ذلك الوقت لا تقل عن65 مليار دولار حسب التقرير الذي نشره معهد لندن للعلوم الاستراتيجية في عام1980.
ان هذا الرقم لا يتسم بالمبالغة.. فقد تدفقت الأموال بعد عام1974 من العاملين الباكستانيين في منطقة الخليج بعد الجنون الذي أصاب أسعار النفط كنتيجة ايجابية من نتائج حرب أكتوبر1973.. وقد كان الاسلام الذي عتنقه الباكستانيون هو جواز المرور لهم في هذه المنطقة.. كذلك فإن ضياء الحق أدرج باكستان ـ التي تقع علي ساحل بحر العرب ـ ضمن منطقة الخليج بصورة استراتيجية كاملة.. وقد اكسب هذا التصور قبولا من ادارة الرئيس الأمريكي رونالد ريجان وبلور دورا لباكستان في الدفاع عن هذه المنطقة.
وهو ما جعل باكستان من الدول الرئيسية المستفيدة من برنامج المعونة الهائل الذي بدأته دول الأوبيك.. فقد حصل علي1744 مليون دولار.. بخلاف الاستثمارات المباشرة للدول النفطية في باكستان والتي بدأت في منتصف السبعينات بحوالي200 مليون دولار.. ولكن هذه الأموال لم يجن ثمرها الغالبية الفقيرة في باكستان.. وانما ذهبت الي جيوب العشرين عائلة ثرية هناك لتزداد ثراء.. وليزداد الناس فقرا.. وجرت عمليات نصب في شركات لتوظيف الأموال.. ومضاربات علي العقارات.. وفتح البلاد للاستهلاك.. وفي الوقت نفسه كانت البلاد تعاني من نقص العمالة الماهرة والأطباء والممرضين والمهندسين الذين هاجروا الي الخليج.. وتعاني من ارتفاع أسعار السلع الأساسية بسبب تصديرها للخارج.. لقد جاءت الأموال بمزيد من الفساد.. وبمزيد من الاضطراب الاجتماعي والصراع النفسي والطبقي.
وفي الوقت نفسه, بدا شعار الاحياء الاسلامي الذي رفعه الجنرال ضياء الحق مثيرا للدهشة.. ولا نقول السخرية.. قد استغل هذا الرجل العسكري المعزول شعبيا والمجنون بالقسوة هذا الشعار كهدية هبطت عليه من السماء.. حينما كان يتحدث في اكتوبر1980 أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة باعتباره المتحدث باسم منظمة المؤتمر الاسلامي عن معارضة الشعوب الاسلامية لضم اسرائيل غير المشروع للقدس.. ووصفت المعارضة ذلك بأنه مسرحية مزيفة لديكتاتور يقوم بتمثيل دور العدالة.. وقالت: انه جرد الثقافة السياسية الباكستانية من انسانيتها بعمليات الاعدام العلنية التي أحاطت بها عملية دعاية واسعة وبعمليات جلد الكثيرين علنا وداخل السجون.
ومن المفارقات التي تذكرها الناس وهو يتكلم عن المشكلة الفلسطينية أمام الأمم المتحدة مرتديا عباءة الاسلام أنه كان يتولي قيادة كتيبة باكستانية ضد منظمة التحرير الفلسطينية خلال الحرب الأهلية في الأردن في سبتمبر عام1970 والمعروفة بمآساة أيلول الأسود.
***
إن الحكم العسكري سيظل هو الحكم العسكري مهما رفع من شعارات مقدسة.. ومهما قام بألعاب الحواة السياسية.. سيظل مسيطرا علي سفينة الأحزان التي يقودها ربان.. قرصان.. وفيها يتكوم الناس في الأقفاص كالفئران.. وهي سفينة حائرة.. لا مرفأ يقبلها.. ولا كيان انساني يدعوها للدخول في مياهها الاقليمية.. فجواز المرور الذي تحمله أصدره الشيطان.. ومن ثم فإن أمامها الغرق أو البقاء خارج الأوطان.
ولا جدال أن الجيش في الدول الجنوبية الفقيرة والمعدمة والمقهورة يلعب الدور الأكبر في السياسة.. وفي بعض البلاد التي تعاني من اضطرابات عرقية ودينية مثل تركيا وباكستان يطرح العسكريون أنفسهم باعتبارهم الضمانة الوحيدة لاستمرار الدولة.. ويتدخلون في فرض السلطة السياسية التي تريحهم كما في تركيا التي ينص الدستور علي تدخل الجنرالات للتغيير في الوقت الذي يحددونه دون تفسير أو تبرير.. وهو نوع من التغيير لا يحتاج في كثير من الأحيان نزول المدرعات الشوارع.
وهناك أشكال أخري لتدخل الجيش للتغيير دون اللجوء للقوة البدنية.. أو الانقلاب العسكري بصورته التقليدية التي تراجعت كثيرا حتي كدنا أن نحسبها في ذمة التاريخ.. ففي اندونيسيا مثلا كان الموقف السلبي لعدم تدخل الجيش في قمع المظاهرات الشعبية المضادة للرئيس السابق سوهارتو كفيلا بسقوط النظام.. كان عدم التدخل يكفي للتغيير.. وهو ما سبق أن جري في السودان في الانتفاضة الديمقراطية التي أطاحت بالرئيس جعفر نميري.. فقد قرر القائد الجديد للمؤسسة العسكرية السودانية الفريق سوار الذهب ان يعزل الجيش عن السياسة ويتنازل في سابقة لم تحدث من قبل عن السلطة.
وفي باكستان نفسها تغير نظام ضياء الحق نفسه بتدبير حادث تحطم طائرة كان يقلها هو والسفير الأمريكي الذي كان موته علي هذا النحو أمرا لا مفر منه لإبعاد الشبهة عن المخابرات المركزية التي اتهمت بتدبير الحادث.
لقد كان القتل علي هذا النحو هو الحل الوحيد أمام القوة الخفية الأمريكية للتخلص من جنرال شديد البطش سد كل منافذ التغيير السلمية.. ان ضياء الحق هو الذي وضع باكستان علي خريطة مواقع الأمن الاستراتيجية الأمريكية.. فقد اعتبر بلاده في خدمة الدفاع عن الخليج.. وكان مستعدا لوضع قوات باكستان المسلحة في خدمة الاستراتيجية الأمريكية في المحيط الهندي.. ومنذ التدخل السوفيتي في أفغانستان في عام1979 كانت باكستان ـ بفضل حدودها المشتركة مع افغانستان ـ هي الطريق الوحيد المتاح لإمداد المقاتلين المناهضين للسوفيت بالأسلحة والمتطوعين من كافة أنحاء العالم الاسلامي وهم من كانوا يسمون بالمجاهدين.. وهم أيضا من تولت المخابرات الأمريكية المركزية تدريب20 ألف شاب منهم علي حروب العصابات.. وهم كذلك من عادوا لبلادهم لينشروا الارهاب والعنف تحت شعار عودة الخلافة والتخلص من النظم الكافرة.ان باكستان أصبحت طرفا مباشرا في حسابات العسكرية الأمريكية منذ ذلك الوقت وبعد ان أبلغ الأدميرال ل.ج. لونج قائد القوات الأمريكية في المحيط الهاديء لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب ان الموقع الاستراتيجي لباكستان انما يتطلب منا أن نحسن علاقتنا الأمنية بها بلا تردد.
وقد استغلت الاستراتيجية الأمريكية العسكرية الباكستانية في تصفية الوجودالسوفيتي في المنطقة.. تحت شعارات دينية.. لكن.. جاء الوقت لتصبح هذه الشعارات الدينية عبئا ثقيلا عليها.. وعلي مصالحها في نفس المنطقة.. فكان لابد أن يتغير النظام في باكستان.. ويبدو أن ذاك التغير ـ الذي تكرر عبر الانتخابات ـ لم يرض الادارة الأمريكية خاصة بعد أن توصلت حكومة نواز شريف الي القنبلة النووية وأصبحت باكستان ـ الدولة الفقيرة التي لاتزيد مساحتها علي948 ألف كيلومتر مربع وسكانها يقتربون من الثمانين مليون نسمة وعمرها لا يمتد لأكثر من عام1947 ـ قوة اقليمية مؤثرة فيما حولها.. وقادرة علي مد نفوذها منفردا ـ دون حاجة للشريك الأمريكي ـ الي منطقة الخليج.. وهو تجاوز للخطوط الحمراء بكل المقاييس.. ومن ثم كان لابد من التخلص من الحكم المدني والعودة للحكم العسكري الذي يسهل علي الولايات المتحدة التفاهم معه دون حساسية أو حسابات.. ويبدو أن الأمريكيين ـ الذين لا يكفون عن التغني بالديمقراطية ولا يكفون عن تهديد النظم الديكتاتورية ـ لم يجدوا سوي أسلوب الانقلاب العسكري لاستخدامه هذه المرة.
ولم يكن مثيرا للدهشة أن تعترض واشنطن علي ما جري في باكستان.. ولا أن تطالب الجنرالات بسرعة العودة للحياة الديمقراطية فهذه اصبحت مسرحية هزلية.. ولكن المثير للدهشة ان واشنطن سرعان ما اعترفت بالانقلاب ومنحته الشرعية.
لقد عاد للوجود وبمباركة القوة الليبرالية الأولي في العالم ـ التي لا أمان لها ـ اسلوب الانقلاب العسكري.. عادت اللعبة القديمة.. الخطيرة.. لعبة الكلاب البوليسية والامبريالية الأمريكية والنخاسة السياسية.. وهي لعبة لا نجاة للشعوب الجنوبية المقهورة منها سوي الليبرالية والديمقراطية.